البكالوريا
العلمي والأدبي اللغــــة
العربيــــة
الشواهد
والأفكار مع النصوص الإثرائية
الوحدة الأولى : القضايا الوطنية والقومية
الأدب القومي:
تقديم : منذ
مطلع عصر النهضة , وبلادنا العربية في حربٍ ضَروس مع الاستعمار وعملائه ومخلّفاته
, وهذا ما استدعى ظهور الأدباء كناشطين سياسيين واجتماعيين على كافة الصُّعد ,حيث
رصدت قوافيهم كل ما يجري على الساحة
العربية , في إطار من الشعر القومي الوطني
وغيرهما ....ولو عدنا بالذاكرة إلى البدايات لوجدنا ظهور بواكير الشعر القومي
بنزعته العربية , متشبِّعاً بروح الثورة
على الاحتلال العثماني والتمرّد على الأجنبي ,يحتل الصفحات الأولى من سجل هذا الشعر مستمداً عناصره من ماضي العرب المجيد وواقعهم
المؤلم .
فكان من أولى المهام
الجِسامِ التي اعتنقوها ,والتي أملتْها عليهم ضرورات الموقف :
ا- الدعوة إلى التنبّه واليقظة
والتحذير من الغفلة من خلال وصف واقع الأمة المتردّي: إبراهيم اليازجي
تنبّهوا
واستفيقوا أيُّها العرب فقد طمى
الخطْبُ حتّى غاصتِ الرُّكَبُ
-وشاعر آخر هو جميل صدقي الزهاوي يخاطب
الإنسان العربي ويحرّضه ويعمل على توعيته ,مذكِّراً إياه بواجبه القومي والوطني اتجاه البلاد التي ترعرع في ربوعها , و مُثيراً
نخوته لاستنصار الحق الذي تداعت أركانه بقوله:
ألا فانتبه للأمر
, حتّامَ تغفلُ؟ أما علّمتكَ
الحالُ ما كنتَ تجهل ؟
أغِثْ بلداً منها نشأتَ فقد عدتْ عليها
عوادٍ للدمار تُعجّلُ
أَمَا من ظهيرٍ يعضُدُالحقَّ عزمُهُ فقد جعلتْ أركانُهُ تتزلزلُ
ب- استنكار الأدباء اغترار
الشباب بإصلاحات الدولة العثمانية الزائفة
والتنديد بقلة خبرة فئة الإصلاح ,
وانطلاء مزاعم الدولة العثمانية عليهم يقول جميل صدقي الزّهاوي::
وما رابني إلا
غِرارةُ فِتيةٍ تؤمِّلُ إصلاحاً ولا تتأمّلُ
وما فئةُ الإصلاحِ إلا كبارقٍ يغرّكَ بالقَطْرِ الذي ليس يهطِلُ
ج-التنديد بسياسة الدولة
العثمانية ومظالمها كتنكيلها برجال العلم
وملاحقتهم والتضييق على أصحاب الكفايات , والعمل على تجهيل الشعوب العربية في كل
قطر ؛ الزهاوي:
فطالتْ إلى سوريةٍ
يدُ عسفهم تحمّلها مالم تكن تتحمّل
وكم نبغتْ فيها رجالٌ أفاضلٌ فلما دهاها العَسْفُ عنها ترحّلوا
وبغدادُ دارُ العلمِ قد أصبحتْ بهم يهدّدها داءٌ من الجهل مُعضلُ
د-وإذلال العثمانيين الكِرامَ
من العرب وأسر الأحرار , وكمّ الأفواه وخنق الحريات والقتل ,الزهاوي: شريفٌ
يُنحّى عن مواطن عزّهِ وأخرُ حُرٌّ بالحديد يُكبَّلُ
إذا سكتَ الإنسان فالهمُّ والأسى وإنْ هو لم يسكتْ فموتٌ معجَّلُ
ثانياً : الشعر الوطني والانتصارات الوطنية
بعد الحرب العالمية
الأولى تخلصت الدول العربية من الاحتلال
العثماني ولكن العرب لم يحققوا بالاستقلال
ماكانوا يَصْبُونَ إليه من وحدة البلاد واستقلالها إذ وجدوا أنفسهم يرزحون تحت نير
الاحتلال الغربي ,وصار جُلّ همهم التخلص
من هذا الاحتلال وتحقيق الاستقلال ,فنشأ أدب وطني غرضه الدفاع عن الوطن واسترجاع
الحقوق المغتصبة كمبدأ من مبادئ الإنسانية ,فانفجرت ثورات تقاوم المحتل ,وتضمنت
قصائد الشعراء آنذاك إثارة النفوس والتحريض على الكفاح وتدعو إلى الحرية وتلفت
النظر إلى غايات المستعمر وتدعو إلى التضامن والتسامح ونبذ التفرقة والتنبيه إلى
أن مواجهة العدو تكون بسلاح العلم الذي يحاربنا به , وتمجّد التضحيات التي قدمها
الشعب لنيل حريته,
1-وعندما نالت الأقطار العربية
استقلالها , راح الأدباء يتغنون بالانتصارات المكللة بالحرية ,ويصورون فرحة الشعب
السوري بجلاء المستعمر الفرنسي , ويعبرون عن اعتزازهم بتضحيات السوريين في سبيل
ذلك, ومنهم الشاعر بدر الدين الحامد بقوله: (وصف
الفرح بالجلاء)
يومُ الجلاءِ هو
الدنيا وزهوتُها لنا
ابتهاجٌ وللباغين إرغامُ
لو
تنطقُ الأرضُ قالتْ: إنني جَدَثٌ فِيَّ
المَيامينُ آسادُ الحمى ناموا
وكذلك الشاعر عمر أبي ريشة
الذي قدّم أبهى صورة للحرية التي تكللت على أراضينا الشريفة , بقوله: ياعروسَ
المجد تيهي واسحبي في مغانينا
ذيولَ الشُّهُبِ
2-فهذه الفرحة لم تتحقق إلا
بإراقة الدماء الزكية الطاهرة لذلك راح الشعراء يمجّدون كثرة التضحيات ويعتزون
بالفداء واسترخاص الدماء الغالية التي أُريقتْ
على أرض الوطن فتعطّرت بعبق الشهادة,يقول: (تمجيد التضحيات)
لن
ترَيْ حفنةَ رملٍ فوقها لم
تُعطَّرْ بدِما حُرٍّ أَبيّ
وأرقناها
دماءً حرّةً فاغرفي ماشئتِ
منها واشربي
3-وتغنّى الأدباء بصفات
الإنسان العربي عبر العصور والتي أفرزت الجلاء من مروءة وشجاعة وحب للأرض وتمسك
بها, وانبثاق نور الحضارة من أراضيهم ,يقول أبو ريشة:
من
هنا شقَّ الهدى أكمامه وتهادى
موكباً في موكبِ
وتغنّتْ
بالمروءات التي عرفَتْها
في فتاها العربي
هبَّ
للفتح فأدمى تحته حافرُ
المُهْرِ جبينَ الكوكبِ
4-وأشاد الشعراء بطموحات
الإنسان العربي الذي راح يوّسع دائرة حضارته إلى العوالم الأخرى ,مؤكدين على الأفق
الإنساني غير المحدود لرسالة العرب يقول
أبو ريشة معتزّاً :
أصيدٌ
ضاقتْ به صحراؤه فأعدّتْه
لأفقٍ أرحبِ
5-ومما تناوله الشعراء في
تسجيل ملاحم البطولة والفداء افتخارهم بنهوض الإنسان العربي مدفوعاً بكرامته
وإبائه و رفض الضيم والذل رغم كثرة الاعتداءات عليه , وعدم اكتراثه بالعراقيل
والظروف القاسية والعمل على تذليلها ,
وتمسّكه بأرضه وإسراعه لحمايتها والدفاع عنها,يقول عمر أبو ريشة:
درج البغي عليها حقبةً وهوى دون بلوغ الأَرَبِ
نحن
من ضعفٍ بنينا قوةً لم
تلِنْ للمارج الملتهبِ
6-فالوطن
هو شرف الإنسان وعليه أن يصونه في السلم وفي الملمّاتِ ,وأن يسرع لنجدته عندما
يستدعيه الواجب , هذا ما أكّد عليه الشاعر عمر أبو ريشة بقوله:
هذه
تربتنا لن تزدهي بسوانا من
حُماةٍ نُدُبِ
الأدب والانتصارات العربية(الطابع الوطني والقومي)
انتصار العرب في تَشرين منعطف
في تاريخ أمتنا النضالي المشرّف , إذ أعاد للإنسان العربي زهوّه وكبرياءه وثقته
بنفسه , كما أعاد للأمة وجهها الوضّاء بعد نكسة حزيران ,فكانت حرب تَشرين تحوّلاً
مهماً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني الذي انكسرت فيها شوكته وتحطّمت أسطورته ؛ وكُثُرٌ
هُمُ الشعراء الذين خلّدوا هذا النصر ومضامينه ومعانيه , منهم الشاعر سليمان
العيسى الذي يعلّق النصر على إهابِ الشهادة
والشهداء ,مؤكداً على حقيقة لا تغيب عن الأذهان وهي أن الانتصارات ومواقف البطولة
والرفعة متصلة ماضياً وحاضراً و أن محو سواد الهزائم مرهون بالتضحيات وحب الوطن في ديمومة لأعراس
المقاومة والفداء , بقوله:
أيّارُ عرسُكَ
معقودٌ على الجبلٍ دمُ الشباب
كتابُ الحبِّ والغزلِ
خرجتُ من كفنِ التاريخ أغنيةً أولى القصائد كانت في فمِ الأزلِ
كما أكّد الشاعر نزار قبّاني
على ذلك من خلال تصوير الفرحة العارمة في أرجاء الوطن بعد فترة الترقّب
والانتظار رابطاً بين انتصارات الماضي
والحاضر في مشاهد مشرقة بقوله:
مزّقي يا دمشقُ
خارطةَ الذْ ذُلِّ وقولي للدهر كُنْ فيكونُ
استردّتْ أيّامها بكِ بدرٌ واستعادتْ شبابها حطّينُ
هُزم الرومُ بعد سبعٍ عِجافٍ وتعافى
وجداننا المطعونُ
وعبّر الأدباء عن
إصرار الإبطال على المقاومة والنضال المشروع على الرغم من المعاناة والعقبات والظروف
القاسية التي اعترضتهم انطلاقاً من صفات فطرية ومتوارثة , وثباتهم على ذلك, يقول
العيسى:
تعبتُ و السيفُ لم
يركعْ , ومزّقني ليلي,وأرضي
صلاةَ السيف لم تزلِ
وانتصار تشرين موصول بماضٍ مشرّف تحقّقَ ببذل الدماء الزكية
وبالكفاح , ومبشّرٌ باستمرار قيمته على
امتداد الوطن العربي حتى النصر يقول:
قلْ للتراب عرفنا
كيف نُترعها كأسَ الشهادة فَاسْقِ
الأرضَ واغتسلِ
تشرينُ مازال في الميدان يا وطني بين المحيطيْن فاسحقْ غيمةَ الشللٍ
واعتزاز الأدباء بدمشق لأنها مسرح البطولات ومثوى الجثامين
الأبية , ففيها تجلّت الوحدة الوطنية وائتلاف الفئات الشعبية بأبهى صورة للُّحْمةِ العربية , يقول العيسى:
وانزلْ هنا مرة
أخرى على بردى وبالشهيد ,بعطر
الوحدة اكتحلِ
ومما عبّر الأدباء عنه فخرهم وإعجابهم
بجيل المقاومة الخالد والتفاؤل به في صنع المعجزات لأنهم بناة المستقبل
العربي ولأنهم يوقنون بأن لغة السلاح هي التي اللغة التي يخاطَب بها العدو , وأنه لا تماهٍ بين الجد
والهزل في المواقف و القضايا المصيرية , يقول
العيسى معتزاً وموجهاً رسالة للأجيال المتعاقبة كيلا تتهادن مع العدو أو تتهاون في
كفاحها أو تفرّط في حقوقها:
أطفالُ تشرين ما
ماتوا ولا انطفؤوا ولا ارتضَوْا عن ظلال
السيف بالبدل
أطفالُ تَشرينَ ياصحراءُ أعرفهم لا يخلطُ الموت بين الجدِّ والهزل
أطفالُ تشرينَ يا وعداً أخبِّئهُ للمعجزاتِ لعرس العرس , للقُبَلِ
الأدب الفلسطيني:
درج الأدباء على تقسيم أدب
فلسطين إلى ثلاث مراحل؛أدب قبل النكبة, زمن الانتداب البريطاني وأدب ما بعد النكبة
مع إعلان الصهاينة كيانهم الغاصب في فلسطين, وأدب المقاومة والنهوض الثوري , وقضية
فلسطين استحالت قضية قومية وإنسانية لأنها قضية وجود , ومما عبّر عنه أدباء فلسطين
في نزوحهم تصوير حلمهم بالعودة فأرض فلسطين ستبقى مُلكاً لهم مهما حاول العدو
المتغطرس الباغي إبعادهم ,فالعودة محققة لا محالة , على هذا يؤكّد الشاعر عبد
الكريم الكرمي:
غداً سنعودُ
والأجيال تصغي إلى وقعِ الخُطا عند
الإياب
لقد أبرز الأدباء حب المهجّرين
لأرضهم وتشبثهم بها وتفاؤلهم بالرجوع إليها ,من ذلك قول الشاعر هارون هاشم رشيد
أيضاً :
سنرجعُ يوماً إلى
حيّنا ونغرقُ في دافئات المنى
ومرحلة ما بعد النكبة منعطف
خطير في تاريخ القضية الفلسطينية , بما رافقها من اضطهاد للعرب وتهجير للشعب وتوطين للصهاينة المشرذمين , ولكن الشعب
الفلسطيني مصمم على العودة مهما كلّفه الأمر من عناء وجهد , وهذا ما ترصده قصيدة
الجسر لمحمود درويش وفيها يقول:
مشياً على
الأقدام......أو زحفاً على الأيدي نعودْ......قالوا.....وكان الصخر يضمُرُ.....والسماءُ يداً تقود .....لم يعرفوا
أن الطريقَ إلى الطريق .....دمٌ , ومصيدةٌ و بـيْـدْ .
وتعالت أصوات الأدباء فاضحة
مندّدة بجرائم الصهاينة اللاإنسانية ,يحكمون بشريعة الغاب حيث الغلبة للأقوى , وآلتهم القتل بلا رحمة , وفطرتهم الهمجية و العسف وهدفهم إبادة العنصر
العربي فلا يفرّقون بين طفل أو شيخ أو امرأة أو رجل , عدا عن تزويرهم حقائق
التاريخ يقول درويش في (الجسر):
وبرغمِ أنَّ
القتلَ كالتدخين................لكنَّ الجنود "
الطيّبينْ".....................الطالعينَعلى فهارسِ دفترٍ
..................قذفته أمعاءُ السنينْ....................لم يقتلوا
الاثنين..........كان الشيخ يسقط في مياه النهرِ...............والبنتُ التي صارتْ
يتيمهْ................كانتْ مُمزَّقةَ الثّيابِ................وطارَ عطرُ
الياسمينْ .
-وعبروا عن إصرارهم على حلم
العودة وتعاظمه رغم كل ما يعترضهم من صعوبات وموانع وسدود ,كما يقول شاعر الأرض :
والجسر يكبر كل
يومٍ كالطّريقْ.................وهجرةُ الدم في مياه النهر
تَنْحَتُ..............من حصى الوادي تماثيلاً لها لونُ...............النّجومِ ,
ولسعةُ الذكرى, وطعمُ ..................الحبِّ حينَ يَصيرُ أكبرَ من عبادهْ .
وقصائد شعراء المقاومة ألهبت
النفوس وفجّرت الحمية والنخوة ودفعتها
للتمسك بالأرض ,وهذا ما جسّده الشاعر توفيق زَيّاد في تحديه الصهاينة مؤكداً على
الثبات على الموقف :
أن تحرثوا
البحرا......أن تُنطقوا التمساح ...... أهونُ ألف مرّة ......من أن تُميتوا
باضطهادكم وميضَ فكرهْ......وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه ......قيد شعرهْ .
-وكان ردُّ الفعل الطبيعي
الحياتي والوجودي إزاء هذا الاضطهاد هو مقاومته ومقاتلته بمختلف أنواع الأسلحة كما
يقول عاشق الأرض : نحن يا أختاه من عشرين عام.....نحنُ لا نكتبُ أشعاراً ,
ولكنّا نقاتلْ.
تمجيد الوحدة والتغني بها :سلامة عبيد
ومن القضايا القومية التي
تناولها الأدباء وأفردوا لها الصفحات الساطعة في دواوينهم كانت قضية الوحدة
العربية التي قامت بين سورية ومصر ,وهلّل لها الشعب العربي عامة , وهاهو الشاعر
سلامة عبيد يصور الفرح العارم بقيامها ,وما تركت من آثار إيجابية في البلاد ولدى الشعبَيْن, فيقول:
أشرق الفجرُ فالدّروبُ ضياءٌ وأناشيدُ عزّةٍ و حِداءُ
إنها فرحةُ الحياةِ فَمِيدي يا روابي وهلّلي يا سماءُ
-و من أهم إنجازاتها التحرر و
إلغاء الحواجز والحدود المصطنعة , التي
رسّخها المستعمر بين الأقطار العربية ,لتفتيت قواها
و هدر إمكاناتها فتضعف و تصبح لقمة
سائغة في فم الأعداء ,يقول سلامة عبيد:
وتلاشتْ مع القيودِ أساطيرُ حدودٍ رهيبةٍ نكراءُ
وتغني بأمتي إنّها عادتْ و إنّا في أرضنا طُلقاءُ
-أما المترددون والمشككون بقيام الوحدة والغارقين في أوهام الماضي , فكان لهم
نصيب من تنبيه الشعراء ,ودعوتهم للإقبال
عليها ومقارنة هذا الحاضر القائم بها مع ما هو راسخ في معتقداتهم
والشاعر سلامة عبيد يخاطبهم
بقوله:
أيُّها التّائهونَ في مَهمه الأمْـ ـسِ سرابٌ دروبُكم وشقاءُ
أقبلوا أيُّها الحَيارى فهذا
الدربُ طَلْقٌ ,
مُشوِّقٌ وَضّاءُ
-كما وعبّروا عن إيمانهم
بضرورة الوحدة لاستعادة ماضي الأمة المشرّف الذي قام على المُثُل والشمائل الحميدة
, وعن تفاؤلهم بجهاد العرب المقدّس من أجل ترميم صرح الحضارة العربية الزاهية التي
هدّمتها معاول الاستعمار وحقده , يقول سلامة عبيد:
دربُ توحيدِ أمّةٍ جَبَلتْها من عبيرِ المكارمِ العلياءً
فيغدٍ تزحفُ الجموعُ لتبني بيديها ما هدّمَ الأعداءُ
وختاماً نجد بأن نسغَ الإنسانِ كلمةُ شرفٍ وموقفُ
عزٍّ , فأما موقف العزّ فأساسه بذل وعطاء وتضحية وفداء ,و أمّا الشرف فهو إرثٌ توارثوه عن أجداد صِيْدٍ .وهذا ما آمن به
أدباؤنا واعتنقوه قولاً ومارسه بعضهم فعلاً.فاستحقوا لقبهم(منارة الأمة) بجدارة
وإخلاص.
الوحدة الثانية علمي –الثالثة أدبي الغربة والاغتراب في الأدب المهجري
تقديم: نشطت الهجرة إلى الأصقاع الأمريكية
شمالها وجنوبها , في أواخر القرن التاسع عشر ولا سيما من لبنان وسورية ,لأسباب عدة
منها جور العثمانيين وعسف الحكومات الاستبدادية والاقتصاد المتردّي , ورغبة الشباب
العربي في الحرية وتلهّفاً لتحقيق آمال ,تغلبه روح المغامرة وارتياد المجاهل,
و لكن ما إن وطئت أقدام المهاجرين أرض الغربة حتى صدمتهم صخور الواقع الناتئة ,
وحياة لم يألفوها بقيمها ولغاتها وشخوصها ...فكان من أبرز جوانب أدب المهجر
بمدرستيه الشمالية والجنوبية :
شعر الحنين والشوق إلى الأهل والديار و ما
سببته الغربة
- امتلأت نفوس المُغرَّبين
بالآلام والحزن , وهفتْ إلى الوطن وملاقاة الأهل والأصحاب والأحبة , وهاهو الشاعر جورج
صيدح يعبر عن شوقه للوطن ,و حنينه إلى
جنانه ورياضه وأنهاره ,
ويشكو الأرق :
وطني, أين أنا
ممنْ أودّ أوَما للحظِّ
بعد الجزْرِ مَدّْ ؟!
غاب خلف البحر عني شاطئٌ كلَّ ما أرّقني فيه رقَدْ
فيه ربعي, فيه جنّاتٌ جرَتْ تحتها الأنهارُ والرزقُ جمَدْ
-وتفجّرت ينابيع الحنين
المُترعة بمشاهد وأطياف المرابع في قلوب وذاكرة
المغرّبين واعتصرهم إحساس بالضياع , فارتبط شعرهم بما عانوه من قسوة
الاغتراب التي ولّدتْ هذه المشاعر المحتدمة , وخير هذه المشاهد يجسّدها شفيق معلوف
وهو يحكي حكاية كل مغترب ويُفصح عن مشاعر الأم المترقبة , لتضيف عذاباً إلى
عذاباتهم :
شراعٌ مدَّ فوق
الموج عنقا وراح يرودُ خلف
الأفق أفقا
ويُقِلُّ فتىُ تبدّى الشطُّ جَهْماً له فأشاح عنه الوجه طلْقا
وغادر عند صخر الشطِّ أُمّاً تذوب إليه تحناناً وشوقا
-وكذلك الشاعر المهجري إلياس
فرحات يرصد لنا حاله وشوقه وحزنه المتجدد:
نازحٌ أقعده وجدٌ
مُقيم في الحشا بين خمودٍ
واتّقادِ
كلّما افترَّ له البدرُ الوسيمُ عضّه الحزنُ بأنيابٍ حِدادِ
-وكلُّ نسيم يهيج ذكراهم إلى
ما في الوطن , فتندفع زفراتهم حارة , إذ تجول بهم الذكريات في أماكن اللهو و
الصبوات ونسائم الديار , يقول نسيب عريضة:
أكلما هبّتِ
الأرياحُ خافقةً تجرُّ في ذيلها أنفاسَ ريحانِ
حسبْتُها نسماتِ الشِّيحِ فانطلقتْ من أسرها زفَرَاتُ العاجزِ الواني
وليس يرويكَ إلا نهلةٌ بَعُدتْ من
ماء دجلةَ أو سلسالِ لبنانِ
وحُلمُ يومك في الميماس مُحتفِلٌ بالغيد والصِّيْدِ في أعراس نُدْمانِ
تصوير البؤس والشقاء والمعاناة في الغربة
أمَّل المهجريون أنفسهم بالرغد والرفاه ولكن سرعان ما
خابت أمانيهم , فيما تطلّبه تحصيلُ الرزق من أعمال لا تُحتمَل ,فهربوا من جحيم
ولكنهم زجّوا أنفسهم في جحيم أدهى ومعاناة أقسى ,فحفلت أشعارهم بصور العذاب
والشقاء والبؤس ,كالشاعر حسني غراب الذي يصوّر معاناته في الغربة ويأسه وسوء حظه :
زورقي تائهٌ وزادي
قليلٌ وشراعي بالٍ
ونجمي خابِ
كلما لاح لي بريقُ رجاءٍ أوصدَ اليأسُ دونه كلَّ
بابِ
كذلك الشاعر جورج صيدح ينقل لنا صورة صادقة نابضة بمشاعر
الأسى وما يلاقيه في سبيل تحصيل الرزق
والمال وتحقيق الأماني من المشقة والعناء
يتجلى فيها شعور خفي بالندم , فيقول:
ما رضيتُ البَيْنَ
لولا شِدّةٌ وجدتْني ساعة
البين أشدّْ
فتجشّمتُ العنا نحو المنى وتقاضاني الغِنى عمراً نفدْ
-لقد عانى المهجريون الأمرّين
في تلك المجاهل القصيّة , دفعتهم أحلامهم الوردية ولكنها لم تتحقّق
وآمالهم أطفأها الشقاء وشبابهم ضاع , حفرت الهجرة أخاديدها الغائرة على
ملامحهم فلا شيء إلا اليأس والبؤس والحزن,
كالشاعر فوزي معلوف إذ يقول:
غمرتْه الأحلامُ
بالشفق الوردي يُغريه المنى تعليلا
وتلاشتْ حلما فحلماً إلى اللاشيء
تمشي به قليلاً قليلا
هو في ميعة الشباب لو حدّقتَ فيه
أبصرتَ شبحاً هزيلا
وجبينٌ ألقتْ عليه شجونُ النفس ظلاً
من العبوس ظليلا
-وربّما كان
للغربة آثارها الموجعة على نفسية المهاجرين , من حيرة وضياع وشرود ,فالشاعر فوزي معلوف ينقل لنا صورة دقيقة
التفاصيل عما يشعر به المُغرَّب ,لقاء جريه وراء تحقيق أمانيه المستحيلة :
حائرَ الطَّرْفِ شاردَ الفكر يحكي
مُدلَجاً في الظلامِ ضلَّ السبيلا
تاهَ في عالمِ الخيالِ فضاعتْ
نفسُهُ و هي تنشُدُ المستحيلا
التعبير عن الشعور بالضياع والوحشة
في بعدهم عن أوطانهم , و
تجديفهم بين الماضي والحاضر و مجاهدتهم
العوم بين غرب وشرق , وأرواحهم التي
تتناهبها الأوطان من جهة وأمانيهم الجاثمة
بين أنياب المُغترَب
-وهذا ما يعبر عنه الشاعر نسيب
عريضة بقوله:
أنا المهاجر ذو
نفسين واحدةٍ تسير سيري وأخرى رهنِ أوطاني
بعُدتُ عنها أجوبُ الأرضَ تقذفني مُنىً حثثْتُ لها رَكْبي وأظعاني
النزوع القومي في الشعر المهجري:
وجد المهجريون أنفسهم ولا سيما
في المهجر الجنوبي بين أقوام لا يفوقونهم رقياً وتطوراً وعزماً , فكان ذلك وراء
تفاخرهم بماضيهم ومآثرهم واعتزازهم بقوميتهم وعروبتهم ,فأبدانهم انتُزعتْ من جسد
أمتهم ولكن قلوبهم لم تنسلخ عن الشرق العربي وقضاياه, ولم تستطع أنوار الحضارة الغربية أن تُخمد جمرة
انتمائهم القومي الذي تجلى في صور شتّى ,
نحو ماجاء على لسان إلياس فرحات :
دارُ العروبة دارُ
الحب والغزلِ هاجرتُ منكِ وقلبي فيكِ لم يزلِ
العربُ واقفةٌ يا شمسُ فانطفئي والعرب زاحفةٌ يا أرضُ فاشتعلي
التعلّق بالوطن وتعزيز الانتماء الوطني:
فجّرت الغربة كوامنَ الحبّ
للوطن فهو حبٌّ فطريٌّ ترعرع في تربة خصبة ورثوها عن أجدادهم , فحملوا صورة الوطن
في قلوبهم أينما ارتحلوا وأينما حلّوا , واعتزوا بها فمرارة العيش في الوطن تعلو
على ترف مدن المغترَب ونعيمها الزائل , يقول جورج صيدح:
فيه مُرُّ العيش يحلو وأرى في سواه زبدةَ العيش زبد
-وهذا الحب الفطري متأصّل في جيناتهم , ينضح من مساماتهم , فإذا
البعد عن الوطن يُتْمٌ وحرمان وعَوَزٌ وجدانيٌّ لا يُعوَّضُ وتمزّقٌ قاسٍ لا يرحم , والعلاقة بين المهاجر
العربي ووطنه علاقة ابن بأبيه ,فهل هنالك أسمى مما عبر عنه الشاعر جورج صيدح ؟!
وطني ما زلتُ
أدعوكَ أبي وجراحُ اليُتم
في قلب الولد
هل درى الدهر الذي فرّقنا أنه فرّق روحاً عن جسد!
-وقد أكّد كثير من الشعراء على
نوازعهم الوطنية بعجز الغربة عن زعزعة هذا
الانتماء للوطن ولقيمه الروحية والاجتماعية وعن زرع الانكسار والخيبة في نفوسهم ,
فترقرق الفرح في النفوس واشرأبَّ الربيع في الأفياء الوارفة التي تظلّلهم , نسيب
عريضة يقول :
صحبي دعوا
النسماتِ الميسَ تلمسني فقد عرفتُ بها
أنفاس كُثباني
تدفّقي يا رياح الشرق هائجةً فأنتِ لا شكَّ من أهلي وإخواني
هززْتِ أغصانَ قلبي بعدما خلعتْ ثوب الربيع فماستْ رقْصَ نشوانِ
استنكار العالم المادي وقيمه والدعوة إلى العيش في رحاب الطبيعة النقية:
تاه المهاجرون في عالم يحُصي و
يَزِنُ ويقيسُ كلَّ شيءٍ , واختنقت أصواتهم الرقيقة في ضجيج المصانع المُروِّع
وصفير البواخر المُدوّي , فزاغتِ الأبصار وراحتِ البصائر تبحث عن عالم بديل , عالم
مثالي نابض بالسحر والجمال , أشبه بالجنة الموعودة والفردوس المأمول , فنادوا
بالعودة إلى الحياة الفطرية .وهذا جبران خليل جبران يجد في غابه الساحر بُعداً عن الأحزان وتفتيتاً للهموم وتبديداً
لعتمات النفس , مندّداً ضمنياً بقيم المجتمع في الغرب بقوله:
ليس في الغابات
حزنٌ لا ولا فيها الهمومْ
فإذا
هبَّ نسيمٌ لم تجِئْ معه السَّمُومْ
وأكدوا على دور
الموسيقى في تجلية مشاعر الإنسان وتهذيبه ,ففيها نسيان للهموم وبعد عن المنغِّصات
,وهاهو جبران خليل جبران يؤكد على ذلك داعياً إلى التحلّل و عدم التفكير بأيّ شيء:
أعطني الناي و غنِّ فالغنا يمحو المِحَنْ
أعطني الناي وغنِّ وانسَ داءً ودواءْ
وتضمنت دعوتهم حثّ الناس على
اللجوء إلى الطبيعة و البعد عن القصور و مظاهر العمران الباذخ و الترف واستبدالها
بكل ما هم طبيعي تماشياً مع الفطرة , والارتماء
في أحضان الطبيعة الساحرة ,وتنشّق عطرها الفوّاح كما الإنسان البدائي الذي لم
تتلفه المدنيّة , يقول جبران:
هل تخِذتَ الغابَ مثلي منزلاً دون القصورْ
فتتبّعتَ
السواقي وتسلّقتَ
الصخورْ
هل
تحمّمتَ بعطرٍ وتنشّفتَ
بنورْ ؟
الرسالة الإنسانية في الأدب المهجري:
-لقد حمل المهجريون معهم
روحانية الشرق ومُثُله وقيمه النابضة في رسالتهم الإنسانية الموجّهة إلى العالم
بأسره , بما يتجلّى فيها من حب وإخاء وتطلّع إلى حياة مُثلى لا حروب فيها ولا
خصومات , يحكمها العدل والغبطة ويسودها الخير والسلام والاكتفاء , إيليا أبو ماضي
يتشوّف ذلك :
إنما
شوقي إلى دنيا رضا وإلى
عصر سلامٍ وإخاءِ
-هذا العالم الذي افتقدوه وسط تكالب على المادة , وغيابِ إنسانيةِ الإنسان وتسلّطِّ شريعة الغاب والعرقية المقيتة , دفعت الشاعر إيليا
أبو ماضي إلى مناداة أخيه الإنسان ودعوته
إلى التواضع ونبذ العنصرية :
يا
أخي لا تَمِلْ بوجهك عني ما أنا
فحمةٌ ولا أنتَ فرقدُ
أنت
مثلي من الثرى وإليه فلماذا يا
صاحبي التيهُ والصدّْ ؟!
خاتمة : وهكذا كان
أدب الهجر غنياً بمادته المستنبطة من واقع عايشه المغرّبون , نقياً في صدق تعبيره
عن المعاناة والانتماء الروحي والوطني
والقومي والإنساني وفي انفتاحه على رياح التجديد مع المحافظة على الأصالة مما
ألبسه خلعة الخلود .
خاص بالفرع الأدبي:
تصوير حياة المغتربين وبؤس
حياتهم بحثاً عن لقمة العيش:
1-
تصوير
مفارقات حياة الكادحين ووحدتهم وبؤسهم: اصطدمت حياة المغرّبين في المهجر بواقع قاسٍ ,
وتحطّمت أحلامهم على صخوره الناتئة وأدركوا بعد فوات ألوان أن السعادة التي طالما
حلموا بها ماهي إلا سرابٌ تبدّد في دروب
الغربة , فشعروا بالضياع وطحنتهم العزلة ولا أحد يصغي لأوجاعهم وهم يعملون دون كلل
أو ملل , هذا ما عبّر عنه الشاعر زكي قنصل
في وصف حياة البنّاء:
يبني القصور وكوخه خَرِبُ ساءتْ حياةٌ كلُّها تعبُ
صَفُرتْ من الأصحابِ راحتُه لم يُجدِهْ سعيٌ ولا طلبُ
ينبو
به في الليل مضجعه ويشوكُهُ
الحرمانُ والنَّصَبُ
2-عبّر
الأدباء المهجريون عن مظاهر الشقاء في السعي لكسب الرزق فبدت معاناة البنّاء
مضاعفة مقارنة بمعاناة أمثالهم في الوطن فيكادون يعملون بلا تحقيق هدف أو رجاء
ولكن بعزيمة لا تعرف الفتور: يقول زكي قنصل
يسعى
ولكن لا إلى أملٍ ويدبُّ
لكنْ حيثُ لا أربُ
يا
غائصاً بالطين لا نصَبٌ يُوهي
عزيمته ولا وَصَبُ
3-ومعاناتهم
في ظروف طبيعية قاسية قاهرة دفعت الشعراء إلى التعاطف معهم
ومحاولة تصبيرهم بإظهار نقاط الالتقاء بينهم , يقول قنصل:
تلهو
الرياح به فإن سكنتْ فتحتْ
عليه ثقوبها السحبُ
صبراً
على الأيام إن عبستْ آماله
و كَبَا به الدأبُ
بيني
وبينك في البلاء وإنْ كذبتْ
عليكَ ظواهري نسبُ
شواهد وأفكار الوحدة الرابعة علمي والخامسة
أدبي ظواهر وجدانية
تمهيد: حفل شعرنا
العربي عبر عصوره الأدبية المختلفة بنفحات وظواهر وجدانية ثرّة , أغنته , والشعر
الوجداني يُعنى بالتعبير الخالص عن المشاعر الإنسانية المختلفة , من حزن وفرح وحب
وكره....فتطغى فيه العاطفة والانفعال النفسي للشاعر في تجربته الذاتية أو في
تصويره لمشاعر الآخرين ,ولعل أبرز ما يتصف به شدة المعاناة وجيشان العاطفة وصدق
التجربة , ومن أهم دوافعه الألم ومرارة التجربة التي تدفعه إلى البوح الصافي
متوجهاً إلى ذاته أو إلى الموضوع.
أولاً: حب الوطن والتعلّق به
1-تغلغل حب الوطن
في القلب واستمراره إلى مابعد الموت, فالوطن
هو المحبوب الأكثر رسوخاً في وجدان الإنسان, لذلك استحوذ على الشعراء التغني به فهو الانتماء والهوية والوجود , فلا قيمة للإنسان بلا وطن يؤويه
ويحتضنه ,فهو باقٍ خالد في قلب الإنسان والتوق إليه لا يفتر ,وهاهو الشاعر عدنان مردم بك يؤكد ديمومة هذا
الحب الأزلي الذي اعتنقه الأجداد وورّثوه للأبناء والأحفاد ,فيقول:
وتشيب ناصية الرجال ووجدهُم لديارهم لا يأتلي بمزيد
حبُّ الديار شريعةٌ لأبوّةٍ في سالفٍ وفريضةٌ لجدود
2-وجوب تقديس ماضي الوطن
وأمجاده, والوقوف خشوعاً وإجلالاً أمام أمجاده
وهذا من أول حقوق الوطن على الأبناء فهو معلم للتاريخ و للأمجاد المتوارثة و منزلة الأوطان سامية في نفوس
الأبناء فكيف إذا كانت وطن انطلاق الهدى ودين الحق كما يقول الشاعر عدنان مردم بك:
قف خاشعاً دون الديار مُوافياً حقَّ الديار على المدى بسجود
هذي الديار صحائف مرقومةٌ جمعتْ من الأنباءِ كلَّ تليد
طهُرتْ مدارجها كأنَّ ترابها ركنُ العتيق بجَفنِ كلِّ
عميدِ
3-ضرورة
الاعتزاز بالماضي المجيد ,فتاريخ العرب حافل بالبطولات وأعلام الحضارة
التي رفرفت فوق كل بلد فتحوه تشهد على إنجازاتهم وعلى نشر نور الحق والعلم المعرفة , فكانوا خير أمة , وهذا الشاعر عدنان
مردم بك يتغنى بهذا الماضي العريق وبُناته العظام الذين رفلوا بأثواب العزة
والفخار :
هذي الديار مرابعٌ لأبوةٍ في سالفٍ وذخائرٌ لحفيدِ
4-دعوة إلى وجوب
الدفاع عن الوطن لأنه شرف الإنسان وعرضه وعليه صون حرمته والدفاع عنه
بكل غالٍ ونفيس , ولا عجب أن تهفو جوارح الشاعر الوجداني إليه فيترجم عشقه أشعاراً
عذبة فيّاضة:
ماكان بِدعاً , والحمى شرف الفتى صون الديار بمُقلةٍ وكُبودِ
وطني وتلك جوارحي لكَ من هوىً هتفتْ كساجعةٍ بجرسِ نشيدِ
ثانياً :المعاناة من الحب ولوعة الفراق:
1-الحسرة
على انقطاع أيام الوصال واللقاء: كما
وجد الشعراء في الشعر الوجداني وسيلة
للتعبير عن المشاعر الصادقة, وعمّا يجيش في النفس, من مشاعر الحزن للفراق بعد أن
كانوا يعيشون في كنف المحبوبة ولكن الزمان
يعصف بهم ويفرّق بينهم , وهذا هو الشاعر بدر الدين الحامد يطلق زفراته الحزينة في
أسمى أبعاد الوجدانية , فيقول:
أكان التلاقي يا فؤادُ
خيالا ؟! نَعِمنا به ثمّ اضْمحلَّ
وزالا
حرامٌ علينا أَنْ
نَنالَ لُبانةُ وهذا
الزمانُ النَّكِدُ صالَ وجالا
2-حزن العشاق وبكاؤهم غير المستغرب: يجد العشاق في
البكاء تنفيساً لهم عما يتأجج في صدورهم فالعبرات هي لغة المتيّمين ,فنجد الشعراء
ينهلون من قواميس الغزل عباراتهم وألفاظهم فيَقرَبون من شعراء الغزل العذري في
هيمنة الحالة الوجدانية عليهم وهذا مانجده
عند الشاعر بدر الدين الحامد الذي يقرّ بكل ما أضفاه الحب عليه ويؤكد على ظهور
آثار الحب عليه :
يقولون لي : ما أنتَ إلا
مُخالطٌ بعقلكَ كم تذري الدّموعَ
سِجالا
نعمْ صدقوا إنّي مُحبٌّ مُتيَّمٌ ولا بِدْعَ أنْ دمعُ المتيّمِ سالا
3-تذكّر أيام الودّ والصفاء : وقد يكون
معبّراً عن الفرح والرضا حين يصفو الزمان
فيجمع ب العاشق من يحب كالشاعر بدر الدين الحامد يصف تعلقه الشديد بمحبوبته
الجميلة , ويدعو بالحفظ والرعاية لزمن التنعّم بلقائها الذي يقارب عيش الجِنان :
رعى الله ما كُنّا عليه
فإنّه من الخُلدِ
والفردوسِ أنعمُ بالا
حبيبٌ كما شاءَ
الهناءُ مُواصلٌ يتيهُ جمالاَ أو
يميسُ دلالا
4- التجربة الذاتية الخاصة التي تحمل أصداء النفس: والشاعر الوجداني يتحدث عن تجربة ذاتية خاصة
قِوامها مشاعره , فتحمل قصيدته طاقات متدفقة من الأحاسيس الرقيقة وتبوح بمختلف
الانفعالات الإنسانية , فتحلق في أفق من
الرؤى الحالمة والخيالات العذبة, وتسبح في فلك من البوح الشجي مُغلّفة بالألم والحزن , ونجد هذا عند الشاعر بدر الدين الحامد الذي
تختلط مشاعره فتارةً يعلل نفسه بعودة الوصال وتارة أخرى ينثر أحزانه قطرات من ندى
صافٍ ساخطاً على زمان جعل الفراق مصير المحبين :
لعل وصالاً منهمُ بعد نأيهم يُوافي المُعنّى لا عدِمتُ
وِصالا
فيا ليتَ أنّا ما
التقينا على هوىً لَبئس
التّنائي إذْ يكونُ مَآلا
ثالثاً: التعبير الصادق عن حرقة أب فقد ابنه فراح
يرثيه:
1-
يبقى الرثاء الاستجابة الحقّة للنفس المُترَعة بالحزن أمام عظمة الموت
,فينساب شعراً وجدانياً مفعماً بأنّات الروح وصدق الأحاسيس حين يكوي الفقد قلب أبٍ
مسكونٍ بحب الحياة ولهفة اللقاء هذا ما ترجمه نزار قباني حين امتدت يد المنيّة
لتخطف ابنه وهو في يناعة الشباب :
مُكسّرةٌ كجفون أبيكَ هي الكلماتْ
ومقصوصة, كجناح أبيك , هي المفردات
فكيف يغنّي المغنّي؟
وقد ملأ الدمعُ كلَّ الدّواةْ...
وماذا سأكتبُ يا ابني؟وموتُكَ ألغى جميع اللغاتْ.....
2-ذكر
مناقب المرثي وصفاته النفسية والجسدية: ويعتمد الشاعر الوجداني على التصوير ,
فتغدو الصورة الوسيلة التعبيرية الأولى , يجسّد الشاعر من خلالها رؤاه وأحاسيسه
,فتقيم علاقات عضوية بين العاطفة والفكر والشعور واللغة والإيقاع وتشحن الرمز بشتى
الانفعالات والطبيعة طوع بنانه ....
وتوفيق القبّاني هو الابن المثالي في قلب والد يأبى أن يتناساه أو أن يرى أجمل منه
ولداً في كافة خصاله فهو كالمرايا
والسنابل والنخيل , ودود محب ومحبوب وهذا مايزيد من حجم التأثير في المتلقي ...إذ
يقول:
سأخبركم عن أميري الجميلْ
عن الكان مثلَ المرايا نقاء, ومثلَ السنابل طولاً ..ومثلَ النخيل
وكان صديقَ الخرافِ الصغيرة, كان صديق العصافير,كان صديقَ الهديل
3- ويحلّق
الشاعر مطلقاً العنان لخياله ,فيجوب آفاق الماضي ويحطُّ في حديقة التراث
,لينقل لنا مشهداً درامياً مؤثراً عن موت
ابنه المرثي وعن نزول القضاء الذي لا تنفع معه حيطةٌ ولا حذر ,فيقول مقتبساً من الموروث الديني قصة سيدنا
يوسف وسيدنا يعقوب في تصوير مشهد الوفاة :
كان كيوسفَ حُسناً...وكنتُ أخاف
عليه من الذئب
كنتُ أخافُ على شعره الذهبي الطويل
...وأمسِ أتَوا يحملون قميص حبيبي
وقد صبغته دماءُ الأصيل
4-
تمني عودة الفقيد إلى الحياة : ورغم
يأس الشاعر وعجزه , يبقى متمسّكاً بحبال الأمل , يتقرّى المخبوء , ويستجلي دفء
الحنين ,و رغم معرفته بأن رحلة المرثيّ أبدية لا عودة منها , ولكنه ضعيف مهزوم أما
حقائق الكون يقول القبّاني:
إنَّ جسورَ الزمالكِ ترقبُ كلَّ صباحٍ خُطاك
وإنّ الحمامَ الدّمشقيَّ يحمل تحت جناحيه دفْءَ هواك
فيا قُرّة العين...كيف وجدتَ الحياةَ هناك؟
فهل ستفكّر فينا قليلاً ؟
وترجعُ في آخر الصيف حتى نراك....
أتوفيقُ
إني جبانٌ أمام رثائكَ
فارحمْ أباك.....
-ومما عبّر عنه الشعراء الوجدانيون سيطرة
اليأس و غياب الأمل عن نفوسهم
وفقدانهم اللهفة للعيش
رغم ما في الحياة من نبض , يقول الشاعر عبد الباسط الصوفي:
صديقتي : لم يبقَ , في عيوننا
بريقْ
لم
يبقَ في ضلوعنا , تلهُّفٌ عميقْ
مازال
بعضُ الجمر في أعماقنا
في
دمنا , في نبضة الوريدْ
في
قلب هذي الأرضِ ميلادُ الحياةِ
وتصطرع الرغبات النفسية في داخلهم, فهم أدركوا وجود
الأمل رغم كل العتمات والخيبات والعراقيل , فتراهم يحثون أنفسهم على المضي في
طريقه , متفائلين بما ينتظرهم إن تجاوزوا مِحنهم ,يقول عبد الباسط الصوفي:
صديقتي:
مازال ,في عيوننا ,بريقْ
مازال
, في ضلوعنا , تلهُّفٌ عميقٍ
فَلْنمضِ
في طريقنا فترقصُ الطريقْ
فنهدمُ
الليلَ , ونغسلُ الغسقْ
-فالرغبة في
الحياة وغريزة البقاء تجعل الإنسان يتفاءل ويستبشر بالفرح فيتجاوز آلامه
ويستعيد حريته , وإن كانت حالته النفسية أقرب للتشكيك إلا انه لا يفقد الأمل
بالأفضل , هذا ما عبر عنه الصوفي بقوله:
صديقتي:
قد ينهضُ الربيعُ , قد يَفيقْ
ويرتمي
الصبحُ على شبّاكنا , غريقْ
قد
تمّحي كلُّ الحدودِ , عالَماً طليقْ
الفرع الأدبي تصوير
جمال المرأة والتغنّي بمقومات هذا الجمال
1-المرأة سرُّ الحياة , وينبوع وجودها وهي الفن في أعظم
تجلياته, والجمال في أبهى صوره, حملت للخلْق من العواطف ما عجز الآخرون عن حمله ,وهي
الحياة في أسمى معانيها , وقد عبّر الشعراء الوجدانيون عن إعجابهم بالمرأة
وبمقوّمات جمالها المادي الأخّاذ,فهذا الشاعر شفيق جبري يؤكّد أن عناصر الطبيعة من
أزهار وتغاريد وحنوّ ,قد اقتنصت جمالها الآسر من المرأة بل يفاضل
بينهما , فيقول:
ليس
الربيعُ وإن بشّتْ أزاهره أحلى على العين
من ريّا مزاياكِ
ولا
العنادل في الأفنان هادلة أشهى إلى السمع
من رنّاتِ ذكراكِ
2-وتظلّل المرأة مَنْ حولها فتجعل أفئدتهم عامرة بأريج
المسرات وعبق الوحي , فهي تُلهم أصحاب المواهب فيقفون في محراب خصالها مستوحين
فتون الإبداع السرمدي , فتحلو الحياة وتأنس الجوارح لها إذ تبدّد الوحشة ؛ هذا ما
يعبر عنه شفيق جبري قائلاً :
إذا
القوافي أبتْ يوماً مُطاوعتي نحوتُ في
خطرات الشعر منحاكِ
3-وانطوى سر جمال الأنثى على الكثير من
المقومات النفسية الخُلقية و المعنوية فوجودها المؤنس , و لمسة كفيها الحانية كفيلة بأن تبدد دُجى الصعوبات , وهذا الشاعر
شفيق جبري يتحدث عن أثرها اللطيف قائلاً :
أنت
الحياة فما تزهو محاسنها إلا إذا طاب
للأحياء مزهاكِ
خُلقتِ
أُنساً لعينٍ ليس يُؤنسها إلا التفيّؤ في أفياء مَغناكِ
4-فالمرأة عند المنصفين لها والمُقرّين بفضلها من أصحاب
المواهب والأحاسيس المرهفة ,يقدّرون
جمالها الداخلي وحُسن خُلقها , فليست كلّ النساء ذميمات الطبع ولا كلهن جميلات
المظهر, ولكن إن اجتمع جمالها الخارجي مع جمالها الداخلي ,كان ذلك نعمة من نِعم
الله , يقول شفيق جبري:
حُلّيتِ
بالخُلُق المصقولِ جانبُهُ سبحان مَنْ
برقيق الخلقِ حَلّاكِ
خاتمة : وهكذا نجد أن الشعر الوجداني نفحاتٌ تنسرب
من حنايا الحق والخير والجمال , تنجلي فيما يعبر عنه المبدعون عما يجيش في نفوسهم من المعاني السامية والمشاعر الرهيفة المتباينة
فهذا ما يخفّف عنهم ما ينوءُون به من ألم ومشقة وإرهاق .
شواهد وأفكار الوحدة الخامسة علمي/السادسة أدبي أدب القضايا الاجتماعية
تمهيد: الأدب
الاجتماعي هو الأدب الذي يُعنى بقضايا المجتمع لأن الصلة بينهما وثيقة , وتنبع تلك
الصلة من علاقة التأثير المتبادلة بين الأديب ومجتمعه , ولكن الأدب ليس نقلاً
حرفياً لحياة المجتمع وظواهره , ولا محاكاة سطحية , بل هو تصوير لموقف الأديب من
مجتمعه وفهمه له ووعيه لقضاياه .
للفرع الأدبي : وقد تناول أدبنا العديد من الموضوعات السائدة في
مجتمعه , معبراً عن هموم الشعب وآماله ,وبرز العديد من الأدباء الذين حملوا على
عاتقهم مهمة الإصلاح الاجتماعي , ويأتي في طليعتها قضية الأطفال , إذ وعى
الأدباء في العصر الحديث حقوقهم بعد ضياعها ,فعاشوا محرومين من التعليم والرعاية
وصنوف الحرمان والتشرد والجهل , فيهبّون داعين لانتشالهم من مستنقعات الشقاء , وفي
هذا يقول إيليا أبو ماضي:
فأعينوه
كي يعيشَ وينمو ناعم البال
في الحياة رضيّا
ويلامس الأدب الاجتماعي التأثير النفسي في الآخرين,
للتعاطف مع القضية المطروحة, لتأييدها ومناصرتها , فالطفولة وداعةٌ ورقّة , تمنح
حياتنا صفاء النبع وتجدّده, إنها البسمة في واقع أطبقت عليه ظلمات الغربة وهذا ما يجعل
الشاعر بدوي الجبل شديد التعلّق بالأطفال وسط عالم مغلّف بالأحزان ويبيّن مكانتهم
في نفس الشاعر المغترب قائلاً:
ولاح
صغاري كالفراخ وأمُّهُم حنونٌ
كورقاءِ الغصونِ رؤومُ
ويتطلّع الشعراء إلى عيشهم مشمولين برعايةٍ ودفء وحنان
بعيدين عن الآلام ومنغصّات الحياة , واتفقت البشرية على حبهم , فهو فطرة جُبل الآباء عليها ,فهم وإن كبروا واشتدت سواعدهم يبقون بحاجة إلى
الاهتمام والرعاية , هذا ما يعبر عنه بدوي الجبل :
فُطرنا على حبّ البنينِ سجيّة تلاقى عليها عاذرٌ ومٌليمُ
يشيب
الفتى منهُمُ, ويبقى لرحمتي كما
كان في عيني وهو فطيمُ
فيجب أن يعيش الأطفال طفولتهم لأنهم لا يدرون ما تخبّئه
الحياة لهم من موافقة أو مشاكسة,يلهون ويلعبون وإن تكلموا فهم لا يعرفون الإفصاح
والإبانة وبالتالي هم أغرار قليلو التجربة ولكن أثرهم في الحياة كبير , فهم البسمة
وهم الذين يروّضون طباع الكبار,ويدفعونهم لتحمّل الصعاب , فلأجلهم يكتم الشاعر
بدوي الجبل معاناته :
وهانٍ بنعماء الطفولة ما درى أَهادَنَ دهرٌ أم ألحَّ خصيمُ
نزعتُ
سهام القلب لمّا خلعتُهُ عليه
ونزعُ المُصمياتِ أليمُ
ولولاهمُ
ما روّضتني شكيمةٌ ولا
لانَ منّي في الصِّعابِ شكيمُ
وكثيرة هي العلل والهموم
الاجتماعية التي تناولها أدباء العصر الحديث ومنها الجهل فقد دعوا إلى
محاربته, وحملوا مشاعل الدعوة إلى العلم لوضع اللَّبِنة
الأولى والدعامة الأساس للنهوض بالمجتمع من كبوته أملاً في القضاء على دابر الجل
ورغبة في بناء حضارة سامقة تكفل للمجتمع تقدّماً ورقيّاً في أوجه الحياة كلّها
,واشتملت دعوتهم الحض على بناء
المدارس للقضاء على آفة الجهل كما قال
معروف الرّصافي:
ابنوا المدارس واستقصوا
بها الأملا حتى نطاول في بنيانها
زُحلا
إن كان للجهل في أحوالنا
عِللٌ فالعلم كالطّبِّ يشفي تلكم العِللا
-الدعوة إلى بناء المدارس لتحقيق الغايات المرجوّة: فالمدارس
منهل العلم والفضائل والتجارب , ولهذا تعالت أصوات الأدباء الداعية إلى تشييد
المدارس هي غرسةٌ إن أينعت فاضت خيراً و معرفة ونِعَماً , ولهذا يُقبل طلاب العلم
على ارتيادها كالطيور المحوّمة, كما يقول
محمود سامي البارودي :
شِيدوا المدارس فهي الغرسُ
إنْ بسقت أفنانه أثمرتْ غضّاً من
النَّعَم
مَغنى علومٍ ترى الأبناءَ
عاكفةً على الدروس به كالطير في
الحرَمِ
-دور العلم في نهوض الأمم: وبالعلوم
تعلو منزلة الأمة, فهي الدواء الشافي من أسقام الجهل والتخلف , وصانع التقدم , وها
هو البارودي يؤكّد على ذلك حيث يرى أن العلم هو معيار النهوض والتقدم ويفضل
قوة السلاح:
بقوة العلم تقوى شوكة
الأممِ فالحُكمُ في الدّهر
منسوبٌ إلى القلمِ
ولو أنصف الناس كان الفضل
بينهُمُ بقطرةٍ من مِدادٍ
لا بسفكِ دمِ
كما أكد الأدباء على جني غراس العلم التي ينهل منها كل متعطّش للمعرفة
,وربطوا بين العلم والفضائل وصلاح الأمة وخلود ذكرها على كافة الصُّعُد ,و مؤكدين على الشروط الواجب
توفّرها في طالب العلم والغايات التي يحققها منه والخبرات والعلوم والمكاسب التي
يحصّلها , كما يقول البارودي:
فاعكف على العلم تبلغ
شأوَ منزلةٍ في الفضل
محفوفةٍ بالعزّ والكرم
قومٌ بهم تصلح الدنيا إذا
فسدتْ ويفرقُ العدلُ
بينَ الذئب والغنمِ
لولا الفضيلةُ لم يخلُدْ لذي
أدبٍ ذكرٌ على الدّهرِ بعد
الموتِ والعدم
كما تبنّى الشعراء قضية الفقر والحرمان والعوز ,فحفلت
قصائدهم بصور الأحوال المتردّية التي نالت
أبناء المجتمع معظمهم, بل أضافوا إليها من ذاتهم ما يحمل القارئ على التفاعل مع
هذه الحالات , ومنهم الشاعر خير الدين الزّركليّ ,معبّراً عن إحساسه
بالفقراء في مشهد درامي ملتهب كانت شخوصه أم وابنها والشاعر :
بكى وبكتْ فهاج بيّ البكاءُ شجوناً ما لجذوتها انطفاءُ
تصوير البؤس والشقاء والفقر : وتتبدّى العلاقة
الوثيقة بين الأدب والمجتمع , فإن كان المجتمع هو الذي يزوّد الأديب بالمادة, فإنّ
الأديب هو اللسان الناطق عن هذا المجتمع مضيفاً إليها من وعيه وإبداعه, فها هو
الزركلي ينقل لنا صورة عن شبح الفقر المخيم على المعوزين وما يستتبعه من
افتقار إلى أهم مقومات الحياة من خلال مشهد يدور بين أم وابنها , فيقول:
بُنيَّ رويدَ عذلكَ إنَّ شجوي لَمّما قد أحلَّ بنا
القضاءُ
ترى أخويكَ قد باتا
وبِتنا جياعاً لا شراب ولا
غذاءُ
وتلاحقت صور الشقاء في تلك المرحلة القاتمة من تاريخنا الحديث نتيجة الظروف
القاسية التي عصفت بتلك الفئة التي وجدت نفسها مرغمة قاصرة بين نواجذ الفقر وبراثن
البؤس يصورهم حافظ إبراهيم بقوله:
لله درُّهم فكم من
بائسٍ جَمِّ
الوجيعةِ سّيِّئِ الأحوالِ
ترمي به الدنيا
فَمِن جوعٍ إلى عُريٍ إلى سُقمٍ
إلى إقلالِ
عينٌ مُسهَّدةٌ
وقلبٌ واجفٌ نفسٌ
مُروَّعةٌ وجيبٌ خالي
الحلول والدعوة إلى الإحسان
والتكافل الاجتماعي: ولم يتوقف
الأدباء عند تصوير الظاهرة بل راحوا يبحثون عن سبل العلاج , فوجده بعضهم في
التكافل الاجتماعي فدعوا إلى التعاضد والتساند والوقوف إلى جانب الفقراء وذوي
الحاجة والعوز ومساعدتهم , حتى يتسنّى لهم العيش في أمنٍ وسلام , فالفقير اخو
الغني وكلاهما قي حاجة الآخر,هذا ما دعا
إليه الشاعر عبد الله يوركي حلّاق:
أعطِ الفقيرَ
ولا تضنَّ بعونهِ إنَّ
الفقير أخوكَ رغم شقائه
كم مُحسنٍ أثرى وعاش
مُنعَّماً في هذه الدّنيا بفضل
دعائه
وهذا الموقف نجده أيضاً لدى الشاعر الزركليّ , فهو يبيّن طريقاً لعلاج
الفقر يقوم على إسراع أهل البر والكرم والمروءة إلى انتشال هؤلاء الفقراء من بين
براثن الجوع والحرمان ليعيشوا في هناءة بعد عسر وقنوط , وإن كان هذا الحل آنياً
ومخدّراً إلى أجلٍ مرهونٍ بوجود هؤلاء المحسنين وذلك في قصته الشعرية حيث يقول:
وقلتُ : إليَّ والدنيا بخيرٍ لقد سمعتْ دُعاءَكما السماءُ
هلمَّ إلى مَبرّةِ
أهلِ فضلٍ شعارهمُ
المروءةُ والسخاءُ
أما حافظ إبراهيم فيدعو إلى فعل الخيرات , مُنذراً من عواقب إهمال هذه
الفئة الفقيرة المعوزة , ومؤكّداً على التسابق في ميدان البرّ والإحسان حرصاً على
نتيجة عاطرة, قائلاً:
فتسابقوا
الخيراتِ فهي أمامكم ميدانَ
سبْقٍ للجوادِ النالِ
-كما أن الشعراء أبانوا نتيجة الإهمال و التقصير في مدّ يد العون لهؤلاء
المحتاجين , وما يمكن أن يجرّه من عواقب وخيمة لا يجهلونها ,مؤكدين على ضرورة ربط القول بالتنفيذ ؛يقول حافظ
إبراهيم:
لا تهملوا في
الصالحاتِ فإنّكم لا تجهلون عواقبَ
الإهمالِ
إنّي أرى فقرا ءَكم في حاجةٍ لو تعلمونَ لقائلٍ فعّالِ
-و أشادوا بأهل البر والإحسان , أولئك الذين تعاظم شعورهم الإنساني
وإحساسهم بحاجة الفقراء والمعوزين واليتامى , فحرصوا على مساعدتهم إنطلاقاً من
مشاعر الأخوة الإنسانية ,يقول حافظ إبراهيم
مُعجباً :
للهِ درُّ
الساهرين على الأُلى سهِروا من الأوجاع والأوجالِ
أهلِ اليتيم وكهفه
وحُماتِهِ وربيعِ
أهلِ البؤس والإمحالِ
تصوير يأس الكادحين وحزنهم
ومن صور الشقاء الإنساني التي رصدها أدبنا العربي الحديث من معاناة الكادحين هي قضية التشرّد ,فعندما
يعصف الفقر بالناس , ويتركهم مشردين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء,تنذرهم أوقاتهم
العصيبة بشد ّرحالهم إلى أماكن الذل والقهر ,هرباً من سياط الوجع المضني , هذا ما
عبر عنه الشاعر السوري أدونيس راصداً حراكهم مرتبطاً بآلامهم قائلاً:
في
أول العام الجديدْ
قالت
لنا
آهاتنا , قالتْ لنا
شدّوا
الرّحال إلى بعيد
أو
فاسكنوا خِيَمَ الجليدْ
فبلادكم
ليستْ هنا
-مظاهر معاناة الكادحين وفي
لوحة مؤطّرة بكل ألوان الأسى والألم تتجلى معاناة هؤلاء المقهورين من جوع وعُري وضياع سببها مستغل ومستعمر
, فتغدو حياتهم سلسلة من المعاناة طويلة لا تكاد تنتهي, فهم مشتتون , مُغرَّبون في بلادهم,
نداءاتهم ترتدّ إليهم خائبة ,
صباحاتهم مسودّة , وماكان جُرمهم إلا
وقوفهم في وجه الدخيل , والشاعر أدونيس خير من ينقل لنا هذا المشهد القاتم
واصفاً :
مُتشتّتون
, مُضَّيعون على الدروب
صِفْرَ
السّواعد والقلوب
والجوعُ
يأكلُ كلَّ ندائنا
والريحُ
بعضُ غطائنا
حتى
الصباحُ يّفرُّ من آفاقنا
ويَغيضُ
في أحداقنا
-التصميم على النضال للخلاص من واقع البؤس المرير : ولا تحتاج فئات الشعب المقهورة
إلا تطميناً وتصبيراً على الظلم ودعوة إلى التعاضد لقهر الصعاب , منطلقة من حب الأرض والتمسك بها ,والمُضيّ قُدُماً نحو مستقبل مشرق تصنعه بسواعدها , و يكون مَثَلاً يُحتذى في تاريخ
الجماهير المكافحة من أجل حقوقها في حياة حرّة كريمة, يقول أدونيس :
أَقلوبَنا
! رِفْقاً بنا , لا تهربي
وتقحّمي
عنف المصير
في
الجوع , في اليأس المرير ,
وهنا
, على هذا التّرابِ , تَتَرَّبي
فغداً
يُقالُ :
من
أرضنا طلعَ النضال
ونما
على أشلائنا
وندائنا
وعلى
تلفُّتنا البعيدْ
لغدٍ
جديدْ
وفي موقف مماثل , يبدو لنا الشاعر محمود درويش أكثر تفاؤلاً بقدرات الشعب
على تغيير الواقع المتردّي , ونقله إلى واقع يرفل بالعدالة والمساواة , تزهو في
سمائه شمس الحرية والخلاص المشرقة التي تصنعها آلام الشعب ومكابدته ,يقول:
وطني
إنّا وُلدنا وكبُرنا بجراحك
وأكلنا
شجرَ البلّوط
كي
نشهد ميلادَ صباحِكْ
خاتمة: وهكذا نجد في خلاصة ما تناولناه أن الأدب الاجتماعي
كان له دور كبير في الحياة , إذ سلّط الضوء على هموم المجتمع ومشكلاته , إثارةً
لنخوة المهملين والغافلين وحثّاً على
التعاطف الإنساني أو سعياً منهم إلى إيجاد
الحلول ومعالجة المشكلات.
تعليقات
إرسال تعليق